بسم الله الرحمن الرحيم
الاعجاز في سورة القيامة
الترتيب في القرآن 75
عدد الآيات 40
عدد الكلمات 164
عدد الحروف 664
الجزء جزء
الحزب حزب
النزول مكية في هذه السورة آية
انظرا معي لهذة الاية
قوله تعالى :::: ""كلا ! إذا بلغت التراقي ، وقيل : من راق ؟ وظن أنه الفراق . والتفت الساق بالساق .. إلى ربك يومئذ المساق "" ..
سبحان من أنزلها
بســـم الله الرحمن الرحيم
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُيَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلاَّ لا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَبل الإنسان على نفسه بصيرة وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ُووجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أَوْلَىلَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى .
هذه السورة الصغيرة تحتشد على القلب البشري من الحقائق والمؤثراتوالصور والمشاهد ، والايقاعات واللمسات ، ومن تلك الحقائق الكبيرة التي تحشدها السورة في مواجهة القلب البشري ،وتضرب عليه حصاراً لامهرب منه ...
حقيقة الموت القاسية الرهيبة التي تواجه كل حي ،فلا يملك لها رداً ، ولا يملك لها ممن حوله دفعاً .وهي تتكرر في كل لحظة ، ويواجهها الكبار والصغار ، والاغنياء والفقراء ، والأقوياء والضعاف ، ويقف الجميع منها موقفاً واحداً .. لاحيلة . ولا وسيلة . ولاقوة ، ولا شفاعة . ولادفع . ولا تأجيل ..
مما يوحي بأنها قادمة من جهة عليا لايملك البشر معها شيئاً . ولا مفر من الاستسلام لها ،والاستسلام لإرادة تلك الجهة العليا ..( كلا ! إذا بلغت التراقي ، وقيل : من راق ؟ وظن أنه الفراق . والتفت الساق بالساق .. إلى ربك يومئذ المساق ) ومن تلك الحقائق الكبيرة التي تعرضها السورة ، حقيقة النشأة الأولى ،ودلالتها علة صدق الخبر بالنشأة الأخرى ،وعلى أن هناك تدبيراً في خلق هذاالإنسان وتقديراً ..
وهي حقيقة يكشف الله للناس عن دقة أدوارها وتتابعها في صنعة مبدعة ، لايقدر عليها إلا الله ولا يدعيها أحد ممن يكذبون بالآخرة ويتمارون فيها ، فهي قاطعة في أن هناك إلهاً واحداً يدير هذا الأمر ويقدره ،كما أنها بينة لاترد على يسر النشأة الآخرة ، وايحاء قوي بضرورة النشأة الآخرة ، تمشياً مع التقدير والتدبير الذي لا يترك هذا الإنسان سدى ، ولا يدع حياته وعمله بلا وزن ولا حساب .. وهذا الإيقاع الذي تمس به القلوب وهي تقول أولها :( أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ؟ ) ثم تقول في آخرها :( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ؟ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ؟ثم كان علقة فخلق فسوى ؟ فجعل منه الزوجين الذكر والأمثى ؟أليس ذلك بقادر على أن يحي الموتى ؟ ) ...
ومن المشاهد المؤثرة التي تحشدها السورة ، وتواجه بها القلب البشري مواجهة قوية .. مشهد يوم القيامة وما يجري فيه من انقلابات كونية ، ومن اضطرابات نفسية ، ويجيء الرد عن تساؤل الإنسان عن يوم القيامة في إيقاعات سريعة ، ومشاهد سريعة ، وومضات سريعة :
( بل يريد الإنسان ليفجر أمامه . يسأل : أيان يوم القيامة ؟ فإذا برق البصر ، وخسف القمر ، وجمع الشمس والقمر ، يقول الإنسان يومئذ : أين المفر ؟ كلا ! لاوزر ، إلى ربك يومئذ المستقر ، ينبأ الانسان يومئذ بما قدم وأخر . بل الإنسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيره ! )
ومن هذه المشاهد مشهد المؤمنين المطمئنين إلى ربهم ،المتطلعين إلى وجهه الكريم في ذلك الهول .ومشهد الآخرين المقطوعي الصلة باالله، والرجاء فيه المتوقعين عاقبة ما أسلفوا من كفر ومعصية وتكذيب وهو مشهد يعرض في قوة وحيوية كأنه حاضر لحظة قراءة القرآن ، وهو يعرض رداً على حب الناس العاجلة واهمالهم للآخرة ،وفي الآخرة يكون هذا الذي يكون :
( كلا بل تحبون العاجلة ، وتذرون الآخرة ، وجوه يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناضرة . ووجوه يومئذ باسرة ، تظن أن يفعل بها فاقرة ! )
وفي ثنايا السورة وحقائقها تلك تعترض أربع آيات توجيهاً خاصاً للرسول – صلى الله عليه وسلم – وتعليماً له في شأن تلقي هذا القرآن فجاء هذا التعليم :
( لاتحرك به لسانك لتعجل به ، إن علينا جمعه وقرآنه ، فاتبع قرآنه ، ثم إن علينا بيانه )
وهكذا يشعر القلب – وهو يواجه هذه السورة أنه محاصر لايهرب . مأخود بعمله لايفلت . لاملجأ له من الله ولا عاصم . مقدرة ونشأته وخطواته بعلم الله وتدبيره ، في النشأة الأولى وفي النشأة الآخرة سواء بينما هو يلهو ويلعب ويغتر ويتبطر :
( فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ، ثم ذهب إلى أهله يتمطى )
وفي مواجهة تلك الحشود من الحقائق والمؤثرات واللمسات يسمع التهديد الملفوف :
( أولى لك فأولى . ثم أولى لك فأولى )
فيكون له وقعه ومعناه !وهكذا تعالج السورة عناد هذا القلب وإعراضه وإصراره ولهوه .وتشعره بالجد الصارم الحازم في هذا الشأن ، شأن القيامه ، وشأن النفس ، وِشأن الحياة المقدرة بحساب دقيق . ثم شأن القرآن الذي لايخرم منه حرف لأنه من كلام العظيم الجليل ، الذي تتجاوب جنبات الوجود بكلماته ، وتثبت في سجل الكون الثابت ، وفي صلب هذا الكتاب الكريم .
ولانملك الا قول
اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله
بسم الله الرحمن الرحيم
ما أخبر به صلى الله عليه وسلم وتحقق بعد موته صلى الله عليه وسلم
فكان أيضاً برهاناً صادقاً على نبوته صلى الله عليه وسلم.وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً خطيباً بين أصحابه، ولنسمع إلى حذيفة وهو يقص علينا الخبر.
يقول حذيفة: "خطب خطبة، ما ترك فيها شيئاً إلى قيام الساعة إلا ذكره، علِمه من علِمه، وجهِله من جهِله"، يقول حذيفة: (إنْ كنت لأرى الشيء قد نسيتُ، فأعرِف ما يعرِف الرجل إذا غاب عنه، فرآه فعرَفه).
قال ابن حجر: "دل ذلك على أنه أخبر في المجلس الواحد بجميع أحوال المخلوقات منذ ابتُدئت إلى أن تفنى، إلى أن تُبعث , فشمل ذلك الإخبارَ عن المبدأ والمعاش والمعاد , في تيسير إيراد ذلك كلِّه في مجلس واحد من خوارق العادة أمرٌ عظيم , ويقْرَب ذلك - مع كون معجزاته لا مرية في كثرتها - أنه صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم".
وهذا الذي رواه حذيفة مجملاً؛ فصّله عمرو بن أخطب الأنصاري رضي الله عنه ، فقال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت العصر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر، فخطَبَنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما هو كائن إلى يوم القيامة، فأعلمُنا أحفظُنا).
قال القاضي عياض: " من ذلك ما أطلع عليه من الغيوب وما يكون، والأحاديث في هذا الباب بحر لا يُدرك قعره، ولا ينزَف غمْرُه، وهذه المعجزة من جملة معجزاته المعلومة على القطع، الواصلِ إلينا خبرها على التواتر، لكثرة رواتها واتفاق معانيها على الاطلاع على الغيب".
ومن الغيوب الباهرة التي كشفت لنبينا صلى الله عليه وسلم خبر أم حرام بنت ملحان ، فقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا)).قالت أم حرام: قلتُ: يا رسول الله أنا فيهم؟ قال: ((أنتِ فيهم)). ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم)). فقلتُ: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: ((لا)).
قال ابن حجر: " وفيه ضروب من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بما سيقع، فوقع كما قال , وذلك معدود من علامات نبوته: منها إعلامه ببقاء أمته بعده، وأن فيهم أصحابُ قوةٍ وشوكة ونِكاية في العدو, وأنهم يتمكنون من البلاد حتى يغزوا البحر, وأن أمَّ حرام تعيش إلى ذلك الزمان, وأنها تكون مع من يغزو البحر, وأنها لا تدرك زمان الغزوة الثانية "
وفي حديث يرويه الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم نام يوماً في بيتها، ثم استيقظ وهو يضحك، فسألَتْه: ما يضحكك يا رسولَ الله؟ قال: ((ناس من أمتي عُرضوا عليّ غُزاة في سبيل الله، يركبون ثبج [ظهر] هذا البحر، مُلوكاً على الأَسِرّة، أو مثل الملوك على الأَسرّة)). قالت: فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها. ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فسألته أم حرام: ما يضحكُك يا رسول الله؟ قال: ((ناس من أمتي عُرِضوا عليّ غُزاة في سبيل الله )) فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: ((أنت من الأولين)). فركبت أمُّ حرامٍ بنتِ مِلحانٍ البحرَ في زمن معاوية رضي الله عنه ، فصُرعت عن دابتها حين خرجت من البحر، فهلكت.
وقد نقل الطبراني وغيره أن قبرها معروف في جزيرة قبرص.
فمن الذي أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون بعده؟ من الذي أعلمه بأن أمته سوف تغزو البحر من بعده، وأن أم حرام بنت ملحان ستعيش حتى تدرك هذا الغزو، فتشارك فيه؟وبينما النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك؛ أنبأ أصحابه بوقوع ستة أحداث مهمة، رتب وقوعها فقال لعوف بن مالك: ((اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي، ثم فتحُ بيت المقدس، ثم مُوتانٌ يأخذُ فيكم كقُعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يُعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطاً، ثم فتنةٌ لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيغدِرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غايةٍ اثنا عشر ألفاً)).
وفي هذا الحديث يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أحداثاً ستة يرتبها، أولها: موتُه صلى الله عليه وسلم، ثم فتحُ بيت المقدس، وقد كان ذلك في العام الخامس عشرَ من الهجرة، ثم موت عظيم يصيب الصحابة، وتحقق ذلك في طاعون عِمواس في السنة الثامنةِ عشرة للهجرة، ثم استفاضةُ المال حين كثرت الأموال زمن الفتوح في عهد عثمان، ثم الفتنةُ التي تصيب العرب، وقد وقعت زمن فتنة قتل عثمان رضي الله عنه التي كانت بوابة للفتن التي ما تركت بيتاً إلا ودخلته.وأما العلامة الأخيرة، وهي الهدنة ثم الحرب مع بني الأصفر- وهم الروم - فقد اتفق العلماء على أنها لم تقع، وأن ذلك يكون في فتن وملاحم آخر الزمان.قال ابن حجر: " وفيه أشياء من علامات النبوة قد ظهر أكثرُها".
ولو شئنا الحديث عن الحدث الرابع منها؛ فإنا نذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال فيفيض، حتى يُهِمَّ ربَ المال من يقبلُ صدقَتَه، وحتى يعرِضَه فيقولَ الذي يَعرِضُه عليه: لا أَرَب لي)).
قال ابن حجر: "في هذا الحديث إشارة إلى ثلاثة أحوال:الأولى: إلى كثرة المال فقط، وقد كان ذلك في زمن الصحابة، ومن ثَم قيل فيه: ((يكثر فيكم)) ..الحالة الثانية: الإشارة إلى فيضه من الكثرة، بحيث أن يحصل استغناء كلُّ أحدٍ عن أخذ مالِ غيرِه, وكان ذلك في آخر عصر الصحابة وأولِ عصر مَن بعدَهم، ومن ثَم قيل: ((يُهِمَّ ربَ المال))، وذلك ينطبق على ما وقع في زمن عمرَ بنِ عبد العزيز.الحالة الثالثة: فيه الإشارة إلى فيضه وحصول الاستغناء لكل أحد، حتى يهتم صاحب المال بكونه لا يجد من يَقبل صدقته، ويزداد [أي الهمُّ] بأنه يعرضه على غيره؛ ولو كان ممن لا يستحق الصدقة، فيأبى أخذَه، فيقول: لا حاجة لي فيه، وهذا في زمن عيسى عليه السلام".
أي بعد نزوله.ومما أخبر به صلى الله عليه وسلم من المغيبات - التي أطلعه الله عليها لتكون برهان نبوته - قدومُ أُويس القَرَني من اليمن، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم لأصحابه بعضَ صفته وأحواله ، فقال: ((إن رجلاً يأتيكم من اليمن، يقال له: أُويس، لا يدع باليمن غيرَ أمٍ له، قد كان به بياض، فدعا الله فأذهبه عنه؛ إلا موضعَ الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فليستغفر لكم)).
وقد كان كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فقد أقبل أهل اليمن زمن عمر؛ فجعل يستقري الرفاق، فيقول: هل فيكم أحد من قَرَن؟ حتى أتى على قرن، فقال: من أنتم؟ قالوا: قَرَن.قال: فوقع زِمامُ عمر رضي الله عنه أو زِمام أويس، فناوله أحدهما الآخر، فعرفه.فقال عمر: ما اسمك؟ قال: أنا أويس. فقال: هل لك والدة؟ قال: نعم. قال: فهل كان بك من البياض شيء؟ قال: نعم، فدعوتُ اللهَ عز وجل فأذهبَه عني إلا موضعَ الدِرهم من سُرَّتي لأذكر به ربي. فقال له عمر رضي الله عنه : استغفر لي. قال: أنتَ أحقُّ أن تستغفر لي، أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر رضي الله عنه : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن خير التابعين رجل يقال له أويس، ولهُ والدة، وكان به بياض، فدعا الله عز وجل، فأذهبَه عنه إلا موضعَ الدِرهم في سُرَّتِه)) فاستغفَر له أويس، ثم دخل في غِمار الناس، فلم يُدر أين وقع [أي ذهب].
قال النووي: "وفي قصة أويس هذه معجزات ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم".
ويخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن بركان يثور في الحجاز ينعكس ضوؤه بالشفق، فيلحظه أهل بصرى بالشام، فتحقق تنبؤه صلى الله عليه وسلم عام 654هـ، ليكون دليلاً آخر على نبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز، تضيء أعناقَ الإبل ببصرى)).
قال النووي: "وقد خرجت في زماننا نار بالمدينة سنة أربع وخمسين وستمائة، وكانت ناراً عظيمة جداً، من جنب المدينة الشرقي وراء الحرة، تواتر العلم بها عند جميع الشام وسائر البلدان، وأخبرني من حضرها من أهل المدينة".
قال ابن كثير: "وقد ذكر أهل التاريخ وغيرهم من الناس، وتواتر وقوع هذا في سنة أربع وخمسين وستمائة، قال الشيخ الإمام الحافظ شيخ الحديث وإمام المؤرخين في زمانه شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل الملقب بأبي شامة في تاريخه: إنها ظهرت يوم الجمعة في خامس جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة .. وذكر كتباً متواترة عن أهل المدينة في كيفية ظهورها شرق المدينة .. وقد ذكر الشيخ شهاب الدين أن أهل المدينة لجؤوا في هذه الأيام إلى المسجد النبوي، وتابوا إلى الله من ذنوب كانوا عليها".
ثم نقل رحمه الله بعض ما قيل من شعر فيها:
يا كاشف الضر صفحاً عن جرائمنا *** فقد أحاطـت بنـا يا رب بأساءنشكو إليك خُطوباً لا نـطيق لها ***
يا كاشف الضر صفحاً عن جرائمنا *** فقد أحاطـت بنـا يا رب بأساءنشكو إليك خُطوباً لا نـطيق لها ***
حـملاً ونحـن بهـا حقاً أحقاءزلازل تخشع الصمُّ الصِّـلاد لها *** وكيف تقوى على الزلزال صماءأقام سبعاً يرجُّ الأرض فانصدعت *** عن منظر منه عين الشمس عشواءبحـر من النار تجري فوقـه سفن ***
من الهضاب لها في الأرض إرساءيرى لهـا شرر كالقصـر طائشةٌ ***
كأنهـا ديمـة تنصَبُّ هطْـلاءتنشق منها قلوب الصخر إن زفرت ***
رعباً وترعد مثل الشهب أضواءفيالهـا آية من معجـزات رسول *** الله يعقـلها أقـوام ألبـاء
ومن علامات نبوته صلى الله عليه وسلم إخباره عن ظهور الدجالين الذين يدَّعون النبوة، فقال محذراً منهم: ((لا تقوم الساعة حتى يُبعث دجالون كذابون قريباً من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله)).
وفي رواية: ((في أمتي كذابون ودجالون، سبعة وعشرون، منهم أربع نسوة، وإني خاتم النبيين، لا نبي بعدي)).
قال ابن حجر: "وليس المراد بالحديث من ادعى النبوة مطلقاً؛ فإنهم لا يُحصَون كثرة، لكون غالبهم ينشأ لهم ذلك عن جنون .. وإنما المراد من قامت له شوكة، وبدت له شبهة ".
وأول النسوة الأربع اللاتي يتنبأن بالكذب سجاحُ التميمية التي ادعت النبوة في وسط الجزيرة العربية، قال ابن حجر: "وقد ظهر مصداق ذلك في آخر زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج مسيلمة باليمامة, والأسود العنسي باليمن, ثم خرج في خلافة أبي بكر طليحةُ بن خويلد في بني أسد بن خزيمة, وسجاح التميمية في بني تميم.. ".
وقد نصّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنبأ عن دجالَيْن يظهر أمرهما بعده، وقد ادعيا النبوة في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، وهما مسيلمةُ الكذاب في اليمامة، والأسودُ العنسي في اليمن.فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في رؤياه أن في يديه سِوارين من ذهب، يقول صلى الله عليه وسلم: ((فأهمني شأنُهما، فأُوحي إليَّ في المنام أن انفُخْهما، فنفختُهما، فطارا، فأوَّلْتُهما كذابَيْن يخرجان بعدي)).
وقد تحققت رؤياه، فكان مسيلمة أول الكذابَين، فقد قدم المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبِعتُه، فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده قطعة جريد فقال: ((لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتُكَها، ولن تعدوَ أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقِرَنك الله، وإني لأراك الذي أُريتُ فيك ما رأيت)). قال أبو هريرة: (فكان أحدهما العنسي، والآخر مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة).
قال النووي: "قوله: ((ولئن أدبرت ليعقرِنك الله )) أي إن أدبرت عن طاعتي ليقتلنك الله .. وقتله الله تعالى يوم اليمامة، وهذا من معجزات النبوة ".
فقد خرج الصحابة لقتاله، وقتله الله بأيديهم، فأطفأ كيده، وأطاش سهمه. ومثله رد الله كيد أخيه في الضلالة ، الأسودِ العنسي ثانيَ الكذابَيْن ، وذلك لما ادعى النبوة قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم, وتابعه قوم من أعراب اليمن, فقوي، واشتد بهم ساعِدُه, فقتله الله على يد فيروزٍ الديلمي وبعضِ المسلمين من أهل اليمن، بمساعدة زوجة الدعي الكذاب، فتحقق فيه ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في رؤياه، فصارت ضلالته هباء تذروه الرياح }فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال{ (الرعد: 17).
ومن الكذابين الذين ادعوا النبوة؛ كذابٌ أنبأ النبي صلى الله عليه وسلم أنه يخرج في ثقيف، وخبره نبأ صدق ترويه أسماء بنت الصديق، فقد دخلت على الحجاج بن يوسف الثقفي بعد مقتل ابنها عبد الله بنِ الزبير فقالت للحجاج: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن في ثقيف كذاباً ومُبيراً، فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا إخالُكَ إلا إياه).
قال النووي: " المبير: المهلك، وقولها في الكذاب: (فرأيناه) تعني به المختارَ بنَ أبي عبيد الثقفي، كان شديد الكذب، ومن أقبحه [أنه] ادعى أن جبريل صلى الله عليه وسلم يأتيه، واتفق العلماء على أن المراد بالكذاب هنا المختارُ بنُ أبي عبيد، وبالمبير الحجاجُ بنُ يوسف".
ومن أخبار المختار الكذاب ما ينقله لنا التابعي رِفاعة بنُ شداد، حيث يقول: دخلت على المختار الثقفي ذات يوم، فقال: جئتني والله، ولقد قام جبريل عن هذا الكرسي.يقول رِفاعة: فأهويت إلى قائم سيفي [أي ليقتله] ، فذكرتُ حديثاً حدثناه عمرو بن الحَمِقِ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا اطمأن الرجل إلى الرجل، ثم قتله بعدما اطمأن إليه؛ نُصب له يوم القيامة لواءُ غدر))، قال رِفاعة: فكففتُ عنه.
وهكذا كان تنبؤ المختارِ الثقفيِ مُصدقاً لخبر أنبأ به النبي صلى الله عليه وسلم عن الكاذب الذي يخرج في ثقيف، كما كان الحجاج هو الظالم الذي يكون من ثقيف، وهذا خبر وحي أخبره به ربه علام الغيوب.ولن ينقطع هؤلاء الكذابون في التاريخ، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((يكون في آخر الزمان دجالون كذابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يضلونكم ولا يفتنونكم)).
ومن هؤلاء الدجالين الذين جاؤوا بالمنكر من القول؛ المتنبئ الكذاب ميرزا غلام أحمد القادياني الذي ظهر قبل قرن من الزمان في الهند، وردّ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ادعى النبوة. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ضلالة هذا الدعي فيما رواه عنه المقدام بنُ معدي كرب حيث قال صلى الله عليه وسلم: ((ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحِلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه)).
قال المباركفوري: "وهذا الحديث دليلٌ من دلائل النبوة وعلامةٌ من علاماتها، فقد وقع ما أخبر به، فإن رجلاً قد خرج في البنجاب من إقليم الهند، وسمى نفسه بأهل القرآن، وشتان بينه وبين أهل القرآن، بل هو من أهل الإلحاد .. فأطال لسانه في رد الأحاديث النبوية بأسرها, وقال: هذه كلها مكذوبةٌ ومفترياتٌ على الله تعالى، وإنما يجب العمل على القرآن العظيم فقط، دون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم, وإن كانت صحيحةً متواترةً".
وهكذا، فإن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بخبر هؤلاء الكذابين إنما هو إخبار ببعض غيب الله الذي أطلعه الله عليه ، ليكون تحققه دليلاً على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وبرهاناً على نبوته ورسالته.
بسم الله الرحمن الرحيم
الغيب سر الله ، فهو وحده تبارك وتعالى الذي يعلم السر وأخفى } وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقةٍ إلا يعلمها ولا حبةٍ في ظلمات الأرض ولا رطبٍ ولا يابسٍ إلا في كتابٍ مبينٍ { (الأنعام: 59).
والنبي صلى الله عليه وسلم كسائر البشر لا يعلم الغيب } قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملكٌ { (الأنعام: 50)، } قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذيرٌ وبشيرٌ لقومٍ يؤمنون { (الأعراف: 188).
فإذا ما أخبر النبي عن شيء من الغيوب؛ فإنما يخبر بشيء من علم الله الذي خصه به وأطلعه عليه، ليكون برهان نبوته ودليل رسالته.
ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن زهاء ألف أمر غيبي، بعضها في القرآن، وبعضها في السنة، وكل منها دليل على نبوته ورسالته.والغيوب التي أخبر بها صلى الله عليه وسلم على ضروب، فمنها ما تحقق حال حياته صلى الله عليه وسلم، ومنها بعده ، ومنها ما يكون قريباً من الساعة، وفي كل ذلك دلائل على نبوته ورسالته.
ومن الغيوب التي تنبأ بها صلى الله عليه وسلم ووقعت حال حياته خبر الريح التي تنبأ صلى الله عليه وسلم بهبوبها وهو منطلق وأصحابُه إلى تبوك فقال: ((ستهبُّ عليكم الليلة ريحٌ شديدة، فلا يقُمْ فيها أحدٌ منكم، فمن كان له بعيرٌ فليشُدَّ عِقاله)).
قال أبو حميد رضي الله عنه راوي الحديث: فهبَّت ريحٌ شديدة، فقام رجلٌ، فحملته الريح، فألقته بجبلي طيء.
فمن الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهبوب هذه الريح في زمن ما كان الناس يقدرون على التنبؤ بالطقس وحركات الرياح؟ إنه الله الذي لا تغيب عنه غائبة.قال النووي: "هذا الحديث فيه هذه المعجزة الظاهرة؛ من إخبارِه عليه الصلاة والسلام بالمغيَّب، وخوفِ الضرر من القيام وقت الريح .. وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة على أمته , والرحمةِ لهم , والاعتناءِ بمصالحهم , وتحذيرِهم مما يضرُّهم في دين أو دنيا".
ومن إخباره صلى الله عليه وسلم بالغيوب تنبؤه بهزيمة الفرس وغلب الروم ، في وقت كادت دولة الفرس أن تزيل الإمبرطورية الرومانية من خارطة الدنيا، فقد وصلت جيوش كسرى أبرويز الثاني إلى وادي النيل، ودانت له أجزاء عظيمة من مملكة الرومان.سنواتٌ معدودة تمكن فيها جيش الفرس من السيطرة على بلاد الشام وبعض مصر، واحتلت جيوشهم أنطاكيا شمالاً، مما آذن بنهاية وشيكة للإمبرطورية الرومانية.
وأمام هذا الطوفان الفارسي أراد هرقل ملك الروم أن يهرب من عاصمة ملكه القسطنطينية، وكاد أن يفعل لولا أن كبير أساقفة الروم أقنعه بالصمود وطلب الصلح الذليل من الفرس.
ووسط هذه الأحداث - وخلافاً لكل التوقعات - أعلن النبي صلى الله عليه وسلم في أجواء مكة المتربصة به وبدعوته أن الروم سينتصرون على الفرس في بضع سنين، أي فيما لا يزيد عن تسع سنين، فقد نزل عليه قول الله تعالى: ]غلبت الروم % في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون % في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذٍ يفرح المؤمنون % بنصر الله[ (الروم: 2-5).يقول المؤرخ إدوار جِبن في كتابه "تاريخ سقوط وانحدار الإمبراطورية الرومانية": "في ذلك الوقت، حين تنبأ القرآن بهذه النبوءة، لم تكن أية نبوءةٍ أبعدَ منها وقوعاً، لأن السنين العشر الأولى من حكومة هرقل كانت تؤذن بانتهاء الإمبرطورية الرومانية".
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتنبأ بانتصار المهزوم الذي يكاد يستسلم لخصمه، ويحدد موعداً دقيقاً لهذا النصر الذي ما من شيء أبعد في تحققه منه.وتناقلت قريش هذه النبوءة الغريبة التي خالفت أهواءهم التي مالت إلى جانب الفرس إخوانِهم في الوثنية، بينما أحب المسلمون انتصار الروم لأنهم أهل كتاب، واستبشروا بالخبر.قال ابن عباس: (كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم، لأنهم وإياهم أهلُ أوثان، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهلُ كتاب، فذكروه لأبي بكر، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما إنهم سيَغلبون.
فذكره أبو بكر لهم، فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلاً، فإن ظهرنا [أي بدوام انتصار الفرس] كان لنا كذا وكذا [أي من الرهن]، وإن ظهرتم [أي بانتصار الروم] كان لكم كذا وكذا، فجعل أجلاً خمس سنين، فلم يظهر الروم [أي في هذه السنينِ الخمس].فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا جعلته إلى دون العشر [أي طلب منه زيادة الأجل إلى تسع سنين، لأن البضع في لغة العرب ما دون العشر]، والله قد وعد بظفر الروم في بضع سنين. قال أبو سعيد: والبضع ما دون العشر. قال: ثم ظهرت الروم بعد، قال ابن عباس: فذلك قوله تعالى: ]غلبت الروم % في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون % في بضع سنين
لقد كان الأمر كما تنبأ عليه الصلاة والسلام، ففي عام 623م وما بعدها استطاع هرقل أن يتخلص من لهوه ومجونه، وشن ثلاث حملات ناجحة أخرجت الفرس من بلاد الرومان. وفي عام 626م واصل الرومان زحفهم حتى وصلوا إلى ضفاف دجلة داخل حدود الدولة الفارسية، واضطر الفرس لطلب الصلح مع الرومان بعد هزيمتهم في معركة نينوى، وأعادوا لهم الصليب المقدس - عندهم - وكان قد وقع بأيديهم.
فمن ذا الذي أخبر محمداً صلى الله عليه وسلم بهذه النبوءة العظيمة؟ إنه وحي الله، وهو دليل رسالته ونبوته عليه الصلاة والسلام.
ولو تأملنا قوله تعالى: ]غلبت الروم * في أدنى الأرض [ فإن أعيننا لن تخطئ برهاناً آخر من براهين نبوته صلى الله عليه وسلم، فقوله تعالى: ] في أدنى الأرض [ يشير إلى حقيقة علمية كشف عنها العلم الحديث، وهي أن البقعة التي انتصر فيها الفرس على الروم في منطقة الأغوار قريباً من البحر الميت هي أدنى الأرض، أي أخفض مكان في الأرض كما تؤكده الموسوعة البريطانية وغيرها
إنه بعض علم اللطيف الخبير.ومما أطلع الله نبيه عليه من الغيوب التي لا يعرفها لولا إخبار الله له؛ خبر كتاب حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه الذي أرسله إلى قريش مع امرأة، يخبرهم فيه بعزم النبي صلى الله عليه وسلم على غزو مكة.فلما كشف الله ذلك لنبيه؛ بعث علياً والزبيرَ والمقدادَ بنَ الأسود، وقال: ((انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة، ومعها كتاب، فخذوه منها))، يقول علي رضي الله عنه : فانطلقنا حتى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب.
قال ابن حجر: "وفيه من أعلام النبوة إطلاعُ الله نبيه على قصة حاطب مع المرأة".
ومثله من الإخبار المعجِز نعْيُه لقادة مؤتة الثلاثة - وقد استشهدوا في الشام - وهو في المدينة ، يقول أنس رضي الله عنه : نعى النبي صلى الله عليه وسلم زيداً وجعفراً وابنَ رواحة للناس قبل أن يأتيَهم خبرُهم ، فقال: ((أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب، وعيناه تذرفان؛ حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم)).
فالذي أعلم النبيَّ صلى الله عليه وسلم بمقتلهم قبل أن يأتي خبرهم إلى الناس هو الله علام الغيوب، قال الطحاوي: "وفيه عَلَمٌ ظاهر من أعلام النبوة".
ومن إخباره صلى الله عليه وسلم بالغيوب؛ تعريفه أبا هريرة رضي الله عنه بحقيقة الشيطان المتمثل في صورة رجل، ، وتنبؤه بأنه سيأتي مرة بعد مرة، فقد جاءه شيطان، يسرق من طعام الزكاة، فأمسك به أبو هريرة، ثم خلّى عنه لما شكى الفقر والعَيْلة.يقول أبو هريرة: فخليتُ عنه، فأصبحتُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟)) فقلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة وعِيالاً، فرحمته، فخليتُ سبيله، قال: ((أما إنه قد كذَبك, وسيعود))، قال أبو هريرة: فعرَفتُ أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه سيعود)) ...وعاد الرجل كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأطلقه أبو هريرة ثانية, فأخبره النبي بمقدَمِه ثالثة، فكان كما أخبر.
فلما غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له صلى الله عليه وسلم: (( تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة؟)) قال: لا، قال: ((ذاك شيطان)).[9]قال ابن حجر: "وفيه إطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على المغيَبات".
فهذه الغيوب وغيرَها مما أخبر به صلى الله عليه وسلم أدلةٌ واضحة وبراهينُ ساطعة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، فهي غيوب أخبره بها عالمُ السر والنجوى.
بسم الله الرحمن الرحيم
إن وجود البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء من أهم ما أكدت عليه النصوص القرآنية والنبوية، التي أخبرت أنه ما من نبي إلا وذكّر أمته بأمر هذا النبي، وأخذ عليهم في ذلك الميثاق: لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم ليؤمنن به، قال تعالى: } وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين { (آل عمران: 81). قال علي رضي الله عنه : (ما بعث الله نبياً آدم فمن دونه؛ إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهو حي؛ ليؤمنن به ولينصرنه وليتبعنه).
وأهل الكتاب يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم معرفتهم بأبنائهم، لكثرة ما حدثهم الأنبياء والكتب عنه صلى الله عليه وسلم } الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون { (الأنعام: 20).
وقد أكد القرآن الكريم على وجود البشارة بنبينا في كتب اليهود والنصارى، فقال ذاكراً بعض صفاته فيها: }الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم { (الأعراف: 157).
ورغم ما تعرضت له كتب اليهود والنصارى من التحريف؛ فإنه لم يختف من ثنايا سطورها شهادات صادقة تشهد بالنبوة لنبينا صلى الله عليه وسلم.
منها ما جاء في سفر النبي إشعيا، وهو من أسفار التوراة التي يؤمن بها اليهود والنصارى اليوم، وفيه يتوعد النبي إشعيا بني إسرائيل الذين يحرفون كتاب الله ولا يلتزمون شريعته، يتوعدهم بالنبي صاحب السفر المختوم، النبيِ الذي لا يعرف القراءة، فيقول في الإصحاح التاسع والعشرين: " أو يُدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة ويقال له: اقرأ هذا، فيقول: لا أعرف القراءة" (إشعيا 29/10-13).
وهذا النص يسجل اللحظة العظيمة التي ستشهد نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت:.. جاءه الحق، وهو في غار حراء، فجاءه الملَك، فقال: اقرأ، فقال: ((ما أنا بقارئ، فأخذني، فغطني حتى بلغ مني الجَهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ.
فأخذني، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجَهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني، فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: } اقرأ باسم ربك الذي خلق # خلق الإنسان من علق # اقرأ وربك الأكرم{ )) (العلق:1-3).
فرسولنا صلى الله عليه وسلم هو النبي الأمي الذي لا يعرف القراءة، والذي دُفع إليه السفر المختوم، فقال: لا أعرف القراءة، فجعل الله سِفره وحياً ينطقه بشفتيه، ويتلوه من بعده المؤمنون إلى قيام الساعة.
ونزل النبي صلى الله عليه وسلم من على غار حراء خائفاً فزعاً، وذهب إلى ورقة بن نوفل - وكان من علماء أهل الكتاب - فقص عليه الخبر، فعرف ورقة نبوة النبي بما قرأ في سِفر النبي إشعيا، فقال: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك .. لم يأت رجل بما جئت به إلا أوذي، وإنْ يُدركني يومُك حياً أنصرك نصراً مؤزراً.
وأما معرفته بإخراج قريش للنبي صلى الله عليه وسلم ومعاداته، فقد عرفه ورقة من سفر إشعيا أيضاً حيث جاءتْ فيه البشارة بالنبي الذي يبعث في بلاد وعرة من أرض العرب، يقول السفر التوراتي في الإصحاح الحادي والعشرين: "وحي من جهة بلاد العرب، في الوعر في بلاد العرب تبيتين، يا قوافل الددانيين هاتوا ماء لملاقاة العطشان، يا سكان أرض تيماء وافوا الهارب بخبزه، فإنهم من السيوف قد هربوا " (إشعيا 21/ 13 - 14)، فالنص التوراتي يتحدث إلى قبائل الددانيين في أرض تيماء ، لينجدوا النبي الذي خرج مع أصحابه هرباً من وجه السيوف، ويشير إلى مكان بعثته الوعر من بلاد العرب، وهي صفة مكة المكرمة، مكان مولِدِه وبعثته صلى الله عليه وسلم.فشهادة ورقة - وهو من علماء أهل الكتاب - دليل ساطع على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الشهادة موثقة معتبرة، فقد استخرجها من كتب أهل الكتاب، مما تبقى بها من آثار الأنبياء وأنوار الوحي ] ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب [ (الرعد: 43).
وممن شهد لنبينا بالرسالة من أهل الكتاب النجاشي ملك الحبشة؛ فإنه آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم لما دخل عليه جعفر بن أبي طالب فقال له: إن الله بعث فينا رسوله، وهو الرسول الذي بشّر به عيسى بن مريم: } ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد { (الصف: 6) فأمرنا أن نعبد الله، ولا نشرك به شيئاً، ونقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر. فقال النجاشي لجعفر: ما يقول صاحبك في ابن مريم؟ قال: يقول فيه قولَ الله، هو روح الله وكلمته، أخرجه من البتول العذراء التي لم يقربها بشر. قال: فتناول النجاشي عوداً من الأرض فقال: يا معشر القسيسين والرهبان، ما يزيد ما يقول هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه، مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، والذي بشّر به عيسى ابن مريم، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه.
لقد أسلم - رحمه الله - بما آتاه الله من معرفة بالكتب قبل الإسلام ، ورأى فيها دليلاً صادقاً من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، فلما مات رحمه الله؛ نعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه في اليوم الذي مات فيه، وصلى عليه صلاة الغائب، وقال: ((مات اليوم رجل صالح، فقوموا، فصلوا على أخيكم أصْحمة)).[5] رحمه الله ، فقد كان إسلامه دليلاً من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.تقول عائشة رضي الله عنها: (لما مات النجاشي كنا نتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور).
وممن عرف هذا الحق ملكُ الروم هرقل، ويروي لنا أبو سفيان بن حرب خبره، فقد كان بالشام حين أرسل النبي صلى الله عليه وسلم كتابه إلى هرقل الذي علم بوجود قافلة لقريش يتاجرون بالشام، وذلك في زمن هدنة الحديبية.
فأرسل إليهم، فجاؤوا إليه بإيلياء، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلتُ (أي أبو سفيان، وكان على الكفر حينذاك): أنا أقربهم نسباً.
فقال: أدنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كَذَبَني فكذِّبوه.
يقول أبو سفيان: "فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت عنه.
ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلتُ: هو فينا ذو نسب.قال: فهل قال هذا القولً منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلتُ: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال أبو سفيان: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة. قال هرقل: فهل قاتلتموه؟ قلتُ: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلتُ: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا، وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصدق والعفاف والصلة.
فقال للترجمان: قل له: سألتكَ عن نسبه، فذكرتَ أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرتَ أن لا، فقلتُ: لو كان أحد قال هذا القول قبله؛ لقلتُ رجل يأتسي بقول قيل قبله.وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، قلتُ: فلو كان من آبائه من ملك؛ قلتُ: رجل يطلب ملك أبيه.وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرتَ أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل.وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك: أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرتَ أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.وسألتك: هل يغدر؟ فذكرتَ أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر.وسألتك: بم يأمركم؟ فذكرتَ أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف.فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدميَّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج ، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلُص إليه لتجشمتُ لقاءه، ولو كنتُ عنده لغسلتُ عن قدمه".
قال المازري: "هذا الذي قاله هرقل أخذه من الكتب القديمة, ففي التوراة هذا أو نحوه من علامات رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعرفه بالعلامات, وأما الدليل القاطع على النبوة فهو المعجزة الظاهرة الخارقة للعادة".
ثم دعا هرقل بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحيةَ إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل، فقرأه فإذا فيه ((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و ]يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضا أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون[)) (آل عمران: 64).
قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب؛ كثر عنده الصخب، وارتفعت الأصوات، وأخرجنا. فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمِرَ [أي بلغ] أمرُ ابن أبي كبشة
أنه يخافه ملكُ بني الأصفر، فما زلتُ موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإسلام.ويمضي الخبر ليخبرنا أن هرقل جاءه رجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل هرقل عن النبي هذا، هل هو مختون أم لا؟ فأخبروه أنه مختون، وأن العرب يختتنون، فقال هرقل: "هذا ملك هذه الأمة قد ظهر".
ثم كتب هرقل إلى صاحب له بروميَّة، وكان نظيره في العلم. وسار هرقل إلى حمص فلم يرم [أي يصل] حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه، يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي.
فأذن هرقل لعظماء الروم في قصر له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع فقال: "يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبُت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيْصَة حُمُر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد غُلِّقَت.فلما رأى هرقل نفرتهم، وأيس من الإيمان، قال: ردوهم علي. وقال: إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم. فقد رأيتُ، فسجدوا له ورضوا عنه.
لقد أنكر هرقل الحق الذي عرفه وتيقنه ضناً بملكه وخشية عليه.قال النووي: " ولا عذر له في هذا ; لأنه قد عرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما شح في المُلك, ورغب في الرياسة , فآثرها على الإسلام .. ولو أراد الله هدايته لوفقه كما وفَّق النجاشيَّ وما زالت عنه الرياسة ".
ويروي ابن إسحاق بسنده عن سلمان الفارسي قصة هجرته في البحث عن الحقيقة، عن الدين الحق، فقد كان سلمان مجوسياً من أهل أصبهان ، مجتهداً في المجوسية يعمل مع أبيه على رعاية معبود الفرس - النار - حتى لا تخبو.
خرج سلمان يوماً إلى ضيعة لأبيه، يقول: فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون ... فلما سمعت أصواتهم ، دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم، ورغِبت في أمرهم ، وقلت: هذا والله خير من الذي نحن عليه، فوالله ما برِحتُهم حتى غربت الشمس .. ثم قلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام.وعلم أبو سلمان بالخبر فحبس سلمان بالقيد، وما كان للقيد أن يكبل سلمان عن رحلته، فهو مشتاق إلى الحق، فاستطاع سلمان الهرب من قيده إلى الشام، ليبدأ رحلته في البحث عن الحقيقة، تلك الرحلة التي نراها دليلاً من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم.يقول سلمان: فلما قدِمتُ الشام قلتُ: من أفضل أهل الدين علماً؟ قالوا: الأسقفُ في الكنيسة ، فجئتُه فقلتُ له: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك، فأخدمك في كنيستك، وأتعلم منك، وأصلي معك، قال: ادخل، فدخلت معه.
فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة، ويرغبهم بها، فإذا جمعوا إليه شيئاً منها اكتنـزه لنفسه، ولم يعطه المساكين ، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق.فأبغضه سلمان، وكشف لهم حقيقته بعد موته، فوضعوا بدلاً منه آخر، يقول عنه سلمان: ما رأيت رجلاً يصلي أفضلَ منه ولا أزهدَ في الدنيا ولا أرغبَ في الآخرة ولا أدأبَ ليلاً ولا نهاراً منه ، فأحببته حباً لم أحبه شيئاً قبله ، فأقمت معه زماناً ثم حضرته الوفاة ، فقلت له: يا فلان، إني قد كنت معك، وأحببتك حباً لم أحبه أحداً قبلك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟ فقال: أي بُنيَّ، والله ما أعلم أحداً على ما كنت عليه، ولقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلاً بالموصل وهو فلان، وهو على ما كنت عليه.
فلما مات الرجل وغُيِّب [أي دُفِن]، لحق سلمان بصاحب الموصل، فأقام عنده إلى حين وفاته، فأوصى الرجلُ سلمانَ أن يلحق برجل على التوحيد في نصيبين، فلزمه سلمان زمناً ، فلما أدركه الموت أوصى الرجلُ سلمانَ باللحاق برجل على التوحيد في عمورية من أرض الروم قائلاً: "فإنه على مثل ما نحن عليه ، فإن أحببت فأْتِه".
فانطلق إليه سلمان ولزمه فلما أدركته الوفاة، قال له سلمان: إلى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟ قال: "يا بني والله ما أعلمه أصبح اليوم أحد على مثل ما كنا عليه فآمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب، مهاجرُه إلى أرض بين حرتين ، بينهما نخل، به علامات لا تخفى: يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل".ثم مر بسلمان تجار من قبيلة كلب، فقلت لهم: احملوني إلى أرض العرب، وأعطيكم بُقيراتي هذه وغُنيماتي هذه، فحملوه معهم، حتى إذا بلغوا وادي القرى يقول سلمان: فظلموني وباعوني لرجل يهودي، فكنت عنده ، فرأيت النخل فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي ولم يحق في نفسي. فبينما أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة، فابتاعني منه، فحملني إلى المدينة ، فوالله ما هو إلا أن رأيتُها فعرَفتُها بصفة صاحبي ، فأقمت بها.
وبُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بمكة ما أقام، لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إني لفي رأس عَذْقٍ لسيدي أعمل فيه بعض العمل وسيدي جالس تحتي؛ إذ أقبل ابنُ عمٍ له، حتى وقف عليه، فقال: يا فلان قاتل الله بني قَيْلة [وهو اسم جدة للأنصار يُنسبون إليها] والله إنهم الآن لمجتمعون معنا على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي. فلما سمعتُها أخذتني العُرَواء [أي الرِعدة] حتى ظننت أني ساقط على سيدي، فنزلت عن النخلة، فجعلتُ أقول لابن عمه ذلك: ما تقول؟ فغضب سيدي، فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: مالك ولهذا؟ أقبِل على عملك! فقلت: لا شيء إنما أردت أن أستثبته عما قال.
وقد كان عندي شيء جمعتُه، فلما أمسيت أخذتُه، ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء، فدخلت عليه، فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم، فقرَّبتُه إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((كلوا)) وأمسك فلم يأكل، فقلت في نفسي: هذه واحدة.ثم انصرفتُ عنه فجمعتُ شيئاً، وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم جئته به، فقلت: إني قد رأيتُك لا تأكلُ الصدقة، وهذه هدية أكرمتُك بها، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه فأكلوا معه، فقلت في نفسي: هاتان اثنتان.
ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد قد تبع جنازة رجل من أصحابه، وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه، ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي، فلما رآني صلى الله عليه وسلم استدبرته عرَف أني أستثبت في شيء وصف لي، فألقى الرداء عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فأكببت عليه أقبله وأبكي. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تحوَّل)) فتحولتُ، فجلستُ بين يديه ، فقصصتُ عليه حديثي .. فأعجبَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأحبَّ أن يسمع ذلك أصحابُه.
ومن دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم بشارة النبيين موسى وحبقوق بنبي قدوس طاهر يخرج من بلاد فاران، وهو اسم للحجاز كما سيتبين لنا.وقد جاء في سفر التثنية المنسوب إلى موسى عليه السلام أنه قال لبني إسرائيل قبيل وفاته: "جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران" (التثنية 33/2)، فقد أخبرهم عليه السلام بأنه كما جاءت رسالة الله إليه على جبل الطور في سيناء، فإن النبوة ستشرق من جبل ساعير في وسط فلسطين، وذلك بنبوة عيسى عليه السلام، ثم ستتلألأ النبوة من فوق جبل فاران بنبي عظيم يخرج فيها. وأكد سفر النبي حبقوق البشارةَ بالنبي المبعوث في فاران، فقال: "والقدوس من جبل فاران، جلاله غطى السماوات، والأرض امتلأت من تسبيحه" (حبقوق 3/3)، فمن هو هذا العبد الطاهر ذو الهيبة الذي يخرج من فاران، وتمتلئ الأرض من تسبيحه وتسبيح أتباعه؟لن نستطيع القول بأنه محمد صلى الله عليه وسلم إلا إذا عرفنا المقصود من كلمة (فاران).
فاسم فاران تستخدمه التوراة في حديثها عن مكة المكرمة، فقد جاء في سفر التكوين أن إسماعيل عليه السلام نشأ وتربى في برية فاران، يقول السِّفر عن إسماعيل: " كان الله مع الغلام فكبر .. وسكن في برية فاران " (التكوين 21/21).
وهكذا استبانت النبوءة في أبهى صورها، فكما عاش إسماعيل في برية فاران التي هي الحجاز، فإن النبوة ستتلألأ من على جبل فاران، فمن هو النبي المبعوث في فاران؟ إنه محمد صلى الله عليه وسلم.
إن أمثال هذه النبوءة الباهرة والشهادة الواضحة دفعت المنصفين من أهل الكتاب إلى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم والاعتراف بأنه الرسول الخاتم المبشر به في كتب السابقين.ومن هؤلاء حَبْرُ اليهود عبدُ الله بن سلام الذي أسلم على يد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد وفد على النبي في يوم هجرته ومقدمه المدينة ، يقول: فجئت في الناس لأنظر إليه.
فلما استثبتُ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت أن وجهَه ليس بوجه كذاب، وكان أول شيء تكلم به صلى الله عليه وسلم أن قال: ((أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلّوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)).
قال السندي: " قوله: ( عرَفْت أن وجهه ليس بوجه كذاب ) لما لاح عليه من سواطع أنوار النبوة، وإذا كان أهل الصلاح والصلاة في الليل يُعرَفون بوجوههم .. فكيف هو، وهو سيدهم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله؟ ".
وفي البخاري أن ابن سلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه، وقال: إني سائلك عن ثلاث، لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه؟ ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خبَّرني بهن آنِفاً جبريلُ .. أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وأما الشبه في الولد، فإن الرجل إذا غشي المرأة، فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها)). قال: أشهد أنك رسول الله. ثم قال ابن سلام: يا رسول الله، إن اليهود قوم بُهْت، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك، فجاءت اليهود، ودخل عبد الله البيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود: أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ قالوا: أعلمُنا وابنُ أعلمِنا، وأخيَرِنا وابنُ أخْيَرنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفرأيتم إن أسلم عبد الله؟)) قالوا: أعاذه الله من ذلك. فخرج عبد الله إليهم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسولُ الله.فقالوا: شرُّنا وابنُ شرنا، ووقعوا فيه.
فإسلام عبد الله بن سلام ، وهو حبر عالم في الكتب السابقة دليل صدق وشاهد حق على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ] ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب [ (الرعد: 43).وفي مسند أحمد شاهد آخر من شهادات أهل الكتاب بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك فيما يرويه عن سلمة بن سلامة البدري رضي الله عنه قال: كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل، فخرج علينا يوماً من بيته قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، فوقف على مجلس عبد الأشهل، وأنا يومئذ أحدث من فيه سناً.. فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار، فقال ذلك لقومٍ أهلِ شرك أصحابِ أوثان، لا يرون أن بعثاً كائن بعد الموت.فقالوا له: ويحك يا فلان، ترى هذا كائناً؟ إن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار؟ يجزون فيها بأعمالهم؟ قال: نعم والذي يحلَف به ..قالوا له: ويحك، وما آيةُ ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد.
وأشار بيده نحو مكة واليمن. قالوا: ومتى تُراه؟ قال سلمة: فنظر إليّ، وأنا من أحدثهم سناً، فقال: إن يستنفد هذا الغلام عمُرَه [أي إن عاش حتى يهرم] يدركْه. قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وهو [أي اليهودي] حي بين أظهرنا، فآمنا به، وكفر به بغياً وحسداً. فقلنا: ويلك يا فلان، ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت؟ قال: بلى، وليس به.
لقد أنكر الحق الذي عرفه وكان يبشر به ] ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين [ (البقرة: 89).لقد كفروا بالنبي الذي كانوا ينتظرونه من بعد ما عرفوه معرفتهم بأبنائهم، وصدق الله العظيم في قوله: } الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون { (الأنعام:20).
ومن البشارات الكتابية أيضاً بالنبي صلى الله عليه وسلم ما جاء في سفر التكوين المنسوب إلى موسى عليه السلام، أنه خاطب بني إسرائيل: "قال لي الرب: قد أحسنوا في ما تكلموا، أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي، أنا أطالبه.." (التثنية 18 / 17 - 19).
والنص كما هو واضح يتحدث عن نبي عظيم يأتي بعد موسى عليه السلام، ويذكر صفات هذا النبي، وأولُها أنه من غير بني إسرائيل، فهو ليس من أنفسهم، بل هو من بني إخوتهم، أي أبناء عمومتهم، وعمومة بني إسرائيل هم بنو عيسو بنِ إسحاق، وبنو إسماعيلَ بنِ إبراهيم عليهم السلام.
وهذا النبي من خصائصه أنه مثل لموسى الذي لم يقم في بني إسرائيل نبي مثله كما جاء في سفر التكوين: "ولم يقم بعدُ نبيٌ في إسرائيل مثلُ موسى" (التثنية: 34/10).
ومن صفات هذا النبي المبشَر به أن الله يعطيه وحياً شفاهياً يحمل كل وصايا الله، وأيضاً فإن الله ينتقم من أعدائه الذين يرفضون نبوته "وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه".
فمن هو هذا النبي الذي يبشر به موسى عليه السلام؟ إنه أخوه محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
ولهذا الخبر وغيره من الأخبار التوراتية؛ كان يهود المدينة يتوعدون جيرانهم من الأوس والخزرج بمقدم نبي عظيم، يسودون به على المدينة وأهلها، فقد روى ابن إسحاق في سيرته عن بعض الأنصار أنهم قالوا: إن مما دعانا إلى الإسلام - مع رحمةِ الله تعالى وهداهُ لنا - لِما كنا نسمع من رجال اليهود، وكنا أهلَ شرك أصحابَ أوثان، وكانوا أهل كتاب، عِندَهم علمٌ ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن، نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيراً ما نسمع ذلك منهم.فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله تعالى، وعرفنا ما كان يتوعدنا به, فبادرناهم إليه، فآمنا به، وكفروا به، ففينا وفيهم نزلت هؤلاء الآيات: } ولما جاءهم كتابٌ من عند الله مصدقٌ لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين { (البقرة: 89).
قال قتادة: "كانت اليهود تستفتح بمحمد صلى الله عليه وسلم على كفار العرب .. فلما بَعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فرأوا أنه بُعِث من غيرِهم، كفروا به حسداً للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة".
وشهد لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم حَبْر عالم من علماء اليهود في المدينة، الحَبرُ ابنُ الهيبان ، وقد جاء من الشام إلى المدينة المنورة حين علم أنها مهاجرُ النبي الخاتَم، فجاء إليها ينتظر مبعثه وهجرته إليها. روى ابن اسحاق في سيرته عن شيخ من بني قريظة، قال: قدم علينا رجل من الشام من اليهود يقال له ابن الهيبان، فأقام عندنا، والله ما رأينا رجلاً يصلي خيراً منه، فقدم علينا قبل مبعَثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين، فكنا إذا قحطنا، وقلّ علينا المطر؛ نقول: يا ابن الهيبان اخرج، فاستسق لنا ، فيقول: لا والله حتى تقدموا أمام مخرجِكم صدقة، فنقول: كم؟ فيقول: صاعاً من تمر، أو مُدَّين من شعير.فنخرجه، ثم يخرج إلى ظاهر حرتنا، ونحن معه نستسقي، فوالله ما يقوم من مجلسه حتى تمطرَ ويمُرَّ الماء بالشعاب، قد فعل ذلك مرة ولا مرتين ولا ثلاثة.
فحضرته الوفاة، واجتمعنا إليه، فقال: يا معشر يهود! أترون ما أخرجني من أرض الخمر والخمير [الشام] إلى أرض البؤس والجوع [يثرب]؟ قالوا: أنت أعلم.قال: فإني إنما خرجت أتوقع نبياً قد أظل زمانُه، هذه البلاد مهاجَرُه، فاتبعوه ولا يسبقَنَّ إليه غيرُكم إذا خرج، يا معشر اليهود، فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء ممن يخالفه فلا يمنعكم ذلك منه، ثم مات.فلما كانت الليلة التي فُتحت فيها قريظة، خرج ثلاثة من حصونهم، فقالوا: يا معشر اليهود، والله إنه للذي ذكر لكم ابنُ الهيبان، فقالوا: ما هو به ، قالوا: بلى والله إنه لصفته.
ثم نزلوا وأسلموا.وأما السفر المنسوب إلى النبي حجي فإنه يذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول لبني إسرائيل: "لا تخافوا، لأنه هكذا قال رب الجنود، هي مرة بعد قليل، فأزلزل السماوات والأرض والبحر واليابسة، وأنزل كل الأمم، ويأتي مشتهى كل الأمم، فأملأ هذا البيت مجداً قال رب الجنود...".ويتحدث السفر عن عظمة بيت جديد من بيوت الله: "مجدُ هذا البيت الأخير يكون أعظمَ من مجد الأول [أي مسجد القدس] قال رب الجنود، وفي هذا المكان أعطي السلام" (حجي 2/6 - 9).
ولو عدنا إلى النص العبري للتوراة، وقرأنا قولها: "ويأتي مشتهى كل الأمم" لوجدنا النص العبري يقول: "فباؤا حِمدات كول هاجوييم"، وكلمة حِمدات التي ترجمت إلى "مشتهى" هي الصيغة العبرية لاسم محمد صلى الله عليه وسلم، وترجمتها خطأ ظاهر لأن الأسماء لا تترجم.وقول السِفر عن بيت الله الأخير أي المسجد الحرام: " وفي هذا المكان أعطي السلام"، أي أعطي الإسلام، فالسلم والإسلام لفظتان اشتقاقهما واحد، وكلاهما اسم يطلق على دين الإسلام، كما قال الله: } يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السِلْم كافةً { (البقرة: 208).قال ابن كثير: "ادخلوا في السلم كافة يعني الإسلام".[19]وهكذا تتلألأ الحقيقة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، إن الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى يذكر النبي باسمه ، وينبؤنا باسم دينه، وعن بيته العظيم الذي يفوق شرفه ومجده بيت الله القديم الذي بناه إسحاق على أرض فلسطين.وقد صدق الله وهو يؤكد وجود البشارة به في كتب السابقين ويعِد المؤمنين منهم بالفلاح العظيم: } الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون { (الأعراف: 157).
بسم الله الرحمن الرحيم
إن أعظم دلائل النبوة القرآنُ الكريم، كتاب الله الذي أعجز الأولين والآخرين.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من الأنبياء من نبي، إلا قد أُعطي من الآيات، ما مثلٌه آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أُوتيتُ وحياً أَوحى اللهُ إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)).
قال ابن حجر في معنى قوله: ((إنما كان الذي أوتيتُ وحياً )): "أي أن معجزتي التي تَحدّيتُ بها، الوحيُ الذي أُنزِل عليّ، وهو القرآن".ثم لفت - رحمه الله - النظر إلى أنه ليس المراد من الحديث حصرَ معجزاته صلى الله عليه وسلم في معجزة القرآن الكريم فقال: "بل المراد أنه المعجزة العظمى التي اختصّ بها دون غيره صلى الله عليه وسلم".
وقال ابن كثير في معنى الحديث: " معناه أن معجزة كل نبي انقرضت بموته، وهذا القرآن حجة باقية على الآباد، لا تنقضي عجائبه، ولا يخلَق عن كثرة الرد، ولا يشبع منه العلماء، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله".
وقال ابن القيم في سياق حديثه عن معجزات الأنبياء: "وأعظمها معجزةً كتابٌ باقٍ غضٌ طريّ لم يتغيّر, ولم يتبدّل منه شيء، بل كأنه منزّل الآن، وهو القرآن العظيم، وما أخبر به يقع كل وقتٍ على الوجه الذي أخبر به".
هذه المعجزة العظيمة تحدى الله بها الأولين والآخرين، ودعاهم للإتيان بمثله حين زعموا أن القرآن من كلامه صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: ]أم يقولون تقَوَّله بل لا يؤمنون * فليأتوا بحديثٍ مثله إن كانوا صاٰدقين[ )الطور: 33-34).فلما أعجز المشركين أن يأتوا بمثله، تحداهم القرآن أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات من عندهم، قال تعالى: ]أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سورٍ مثله مفترياتٍ وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صـادقين[ (هود: 13).قال ابن كثير: "بين تعالى إعجاز القرآن، وأنه لا يستطيع أحدٌ أن يأتي بمثله، ولا بعشر سور من مثله، ولا بسورة من مثله؛ لأن كلام الرب تعالى لا يشبه كلام المخلوقين، كما أن صفاته لا تشبه صفات المحدثات، وذاته لا يشبهها شيء ".
فلما عجزوا عن الإتيان بعشر سور تحداهم القرآن أن يأتوا بسورة واحدة، قال تعالى: ]وإن كنتم في ريبٍ مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورةٍ من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صـادقين[ (البقرة: 23).قال الطبري: " ومن حجة محمدٍ صلى الله عليه وسلم على صدقه، وبرهانه على حقيقة نبوته، وأن ما جاء به من عندي [أي من عند الله] ؛ عجز جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم، عن أن تأتوا بسورة من مثله.
وإذا عجزتم عن ذلك ـ وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة ـ فقد علمتم أن غيركم عما عجزتم عنه من ذلك أعجز".
ويبلغ التحدي القرآني غايته حين يخبر القرآن أن عجز المشركين عن محاكاة القرآن والإتيان بمثله عجز دائم لا انقطاع له، فيقول: ]فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا[ (البقرة: 24).
قال القرطبي: " قوله: ] ولن تفعلوا [ إثارةٌ لهممهم، وتحريكٌ لنفوسهم؛ ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع، وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها".
وحين أراد مسيلمة معارضة القرآن فضحه الله وأخزاه، فكان قوله محلاً لسخرية العقلاء وإعراض البلغاء، فقد قال: "يا ضفدع، نقي كما تنقين ، لا الماء تدركين ، ولا الشراب تمنعين". وقال أيضاً معارضاً القرآن: " ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج من بطنها نسمة تسعى ، من بين شراشيف وحشى ".
وأما النضر بن الحارث فصيح قريش وبليغها، فأتى بالمضحك من القول حين قال: "والزارعات زرعاً. والحاصدات حصداً. والطاحنات طحناً. والعاجنات عجناً. والخابزات خبزاً ....".
وعندما أراد الأديب ابن المقفع معارضة القرآن كل وعجز، وقال: أشهد أن هذا لا يعارض، وما هو من كلام البشر. ومثله صنع يحيى الغزال بليغ الأندلس وفصيحها.وصدق الله العظيم: ]قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هـذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً[ (الإسراء: 88).
قال ابن سعدي: "وكيف يقدر المخلوق من تراب، أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب؟ .. هذا ليس في الإمكان، ولا في قدرة الإنسان، وكل من له أدنى ذوقٍ ومعرفةٍ بأنواع الكلام، إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء، ظهر له الفرق العظيم".
لقد اعترف أعداء القرآن بعظمة القرآن، وذلت رقابهم لما سمعوه من محكم آياته، فهاهو الوليد بن المغيرة سيد قريش، يسمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ قوله تعالى: ]إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتآء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون[ (النحل:90).
فيقول قولته المشهورة: "والله إنَّ لقولِه الذي يقولُ لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنه لمثمرٌ أعلاه، مغدِقٌ أسفلُه، وإنه ليعلو وما يُعلا، وإنه ليَحطِم ما تحته".
ولما جاء عتبة بن ربيعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم أوائل سورة فصلت، فرجع إلى قريش قائلاً: إني واللهِ قد سمعت قولاً ما سمعتُ بمثلِه قط، والله ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة، يا معشر قريش: أطيعوني واجعلوها بي، خلّوا بين هذا الرجل وبينَ ما هو فيه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعتُ نبأ".
وفي العصر الحديث أيضاً شهد المنصفون من المستشرقين بعظمة القرآن، وسجلت كلماتُهم بحقه المزيدَ من الإعجاب والدَهش.
ومنه قول المستشرق فون هامر في مقدَمة ترجمته للقرآن، فقد قال: "القرآن ليس دستورَ الإسلام فحسب، وإنما هو ذِروة البيانِ العربي، وأسلوبُ القرآن المدهش يشهد على أن القرآنَ هو وحيٌ من الله، وأن محمداً قد نشر سلطانَه بإعجاز الخطاب، فالكلمةُ [أي القرآنُ] لم يكن من الممكن أن تكونَ ثمرةَ قريحةٍ بشرية".
ويقول فيليب حتي في كتابه "الإسلام منهج حياة": "إن الأسلوب القرآني مختلف عن غيره، إنه لا يقبل المقارنة بأسلوب آخر، ولا يمكن أن يقلد، وهذا في أساسه هو إعجاز القرآن .. فمن جميع المعجزات كان القرآن المعجزة الكبرى".
وأما جورج حنا فيقول في كتابه "قصة الإنسان": "إذا كان المسلمون يعتبرون أن صوابية القرآن هي نتيجة محتومة لكون القرآن منزلاً ولا يحتمل التخطئة، فالمسيحيون يعترفون أيضاً بهذه الصوابية، بقطع النظر عن كونه منزلاً أو موضوعاً، ويرجعون إليه للاستشهاد بلغته الصحيحة كلما استعصى عليهم أمر من أمور اللغة".
ويقول الفيلسوف الفرنسي هنري سيرويا في كتابه "فلسفة الفكر الإسلامي" : "القرآن من الله بأسلوب سام ورفيع لا يدانيه أسلوب البشر".وأما المستشرق بلاشير فلم يألُ جهداً في الطعن في القرآن ومعاداته في كتابه "القرآن الكريم"، لكن الحقيقة غلبته، فقال: "إن القرآن ليس معجزة بمحتواه وتعليمه فقط، إنه أيضاً يمكنه أن يكون قبل أي شيء آخر تحفة أدبية رائعة ؛ تسمو على جميع ما أقرته الإنسانية وبجلته من التحف".
وبهرت جزالة القرآن وروعة أساليبه المستشرق الأديب غوته، فسجل في ديوانه "الديوان الشرقي للشاعر الغربي" هذه الشهادة للقرآن: "القرآن ليس كلام البشر، فإذا أنكرنا كونه من الله، فمعناه أننا اعتبرنا محمداً هو الإله ".
وتحدث بعض المستشرقين عن الانقلاب العظيم الذي أحدثه القرآن في القيم الاجتماعية والأخلاقية للعرب، وكيف صنع منهم ومن الأمم الأخرى التي دخلت في الإسلام أمة الحضارة والريادة طوال قرون، فيقول المفكر الفرنسي مارسيل بوازار في كتابه "إنسانية الإسلام": "إن القرآن لم يُقدّر قط لإصلاح أخلاق عرب الجاهلية، إنه على العكس يحمل الشريعة الخالدة والكاملة والمطابقة للحقائق البشرية والحاجات الاجتماعية في كل الأزمنة".
ويقول ولد يورانت في "قصة الحضارة" عن القرآن: "وقد كان له أكبر الفضل في رفع مستوى المسلمين الأخلاقي والثقافي، وهو الذي أقام فيهم قواعد النظام الاجتماعي والوحدة الاجتماعية، وحرضهم على اتباع القواعد الصحيحة، وحرر وبعث في نفوس الأذلاء الكرامة والعزة، وأوجد بين المسلمين درجة من الاعتدال والبعد عن الشهوات لم يوجد لها نظير في أية بقعة من بقاع العالم يسكنها الرجل الأبيض".وتقول المستشرقة الإيطالية لورافيشيا فاغليري في كتابها "دفاع عن الإسلام": "إن انتشار الإسلام السريع لم يتم لا عن طريق القوة ولا بجهود المبشرين الموصولة، إن الذي أدى إلى ذلك الانتشار كون الكتاب الذي قدمه المسلمون للشعوب المغلوبة - مع تخييرها بين قبوله ورفضه - كتاب الله، كلمة الحق، أعظم معجزة كان في ميسور محمد أن يقدمها إلى المترددين في هذه الأرض".
ومما أذهل العلماء إعجاز القرآن العلمي، وما حواه من معارف توصلت إليها البشرية قريباً بفضل التقنية العلمية الحديثة، فسجل هؤلاء العلماء شهادات منصفة بحق القرآن العظيم.
ونبدأ بالبروفسور يوشيودي كوزان مدير مرصد طوكيو، إذ يقول: " إن هذا القرآن يصف الكون من أعلى نقطة في الوجود، فكل شيء أمامه مكشوف، إن الذي قال هذا القرآن، [أي الله] يرى كل شيء في هذا الكون، فليس هناك شيء قد خفي عليه ".
وأما البرفسور شرويدر عالم البحار الألماني فيقول في ندوة علماء البحار التي نظمتها جامعة الملك عبد العزيز بجدة: "ما قيل بالفعل منذ عديد من القرون في القرآن الكريم هو حقيقة ما يكتشفه العلماء اليوم، أعتقد أنه من المهم بالنسبة لندوة لهذه أن تبلغ هذا إلى العلماء من جميع الأمم".
ويقول البرفسور درجا برساد راو أستاذ علم جولوجيا البحار في جامعة الملك عبد العزيز، فيقول تعليقاً على إخبار الله في القرآن عن ظلمات البحار وأمواجها الداخلية، فقال: "ومن الصعب أن نفترض أن هذا النوع من المعرفة كان موجوداً في ذلك الوقت منذ 1400سنة ، ولكن بعض الأشياء تتناول فكرة عامة، ولكن وصف هذه الأشياء بتفصيل كبير أمر صعب جداً، ولذلك فمن المؤكد أن هذا ليس علماً بشرياً بسيطاً، لا يستطيع الإنسان العادي أن يشرح هذه الظواهر بذلك القدر من التفصيل، ولذلك فقد فكرت في قوة خارقة للطبيعة خارج الإنسان، لقد جاءت المعلومات من مصدر خارق للطبيعة".
وفي مؤتمر القاهرة (1986م) حول الإعجاز العلمي قدم البرفسور الأمريكي بالمار بحثاً ختمه بقوله: "أنا لا أعلم المستوى الثقافي الذي كان عليه الناس في زمن محمد [صلى الله عليه وسلم] ولا أدري في أي مستوى علمي كانوا، فإذا كان الأمر كما نعرف عن أحوال الأولين والمستوى العلمي المتواضع والذي ليس فيه هذه الإمكانيات، فلا شك أن هذا العلم الذي نقرؤه الآن في القرآن هو نور من العلم الإلهي قد أوحي به إلى محمد ".
ونختم جولتنا مع إعجاز القرآن العلمي بالحديث عن حديث القرآن عن تطور الجنين وتخلقه، وننقل شهادة البروفيسور مارشال جونسون رئيس قسم التشريح ومدير معهد دانيال بجامعة توماس جيفرسون بفلادلفيا بالولايات المتحدة الأمريكية، فقد أذهله ما ذكره القرآن عن تطور الجنين، فقال: "إنني كعالم أستطيع فقط أن أتعامل مع أشياء أستطيع أن أراها بالتحديد، أستطيع أن أفهم علم الأجنة وتطور علم الأحياء، أستطيع أن أفهم الكلمات التي تترجم لي من القرآن .. إنني لا أرى شيئاً لا أرى سبباً لا أرى دليلاً على حقيقة تفند مفهوم هذا الفرد محمد [صلى الله عليه وسلم] الذي لا بد وأنه يتلقى هذه المعلومات من مكان ما، ولذلك إنني لا أرى شيئاً يتضارب مع مفهوم أن التدخل الإلهي كان مشمولاً فيما كان باستطاعته أن يبلغه".
ويضيف البرفسور كيث مور مؤلف الكتاب الشهير الذي يعتبر مرجعاً معتمداً في كليات الطب العالمية ( رضي الله عنه صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلمصلى الله عليه وسلمloping Human) "أطوار خلق الإنسان"، فيقول عما سمعه من إعجاز قرآني في علم الأجنة: "يتضح لي أن هذه الأدلة حتماً جاءت لمحمد من عند الله، لأن كل هذه المعلومات لم تكشف إلا حديثاً وبعد قرون عدة، وهذا يثبت لي أن محمداً رسول الله".
وصدق الله وهو يقول: ]ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد[ (سبأ: 6).
بسم الله الرحمن الرحيم
ومن هذه المعجزات التي أوتيها الأنبياء والمرسلون؛ حبس الله الشمس عن الغروب لنبيه يوشع بن نون، قال صلى الله عليه وسلم: ((غزا نبي من الأنبياء .. فأدنى للقرية حين صلاة العصر أو قريباً من ذلك، فقال للشمس: أنتِ مأمورة، وأنا مأمور، اللهم احبسها عليّ شيئاً، فحبست عليه حتى فتح الله عليه )).
لقد خرق الله سنته في جريان الشمس إكراماً لنبي الله يوشع، واستجابة لدعائه لله.وبمثله أيد الله موسى عليه السلام، فقد شقّ الله له البحر لما ضربه بعصاه، فصار طرقاً ممهدة يمشي بنو إسرائيل عليها في دعة وسكينة.وبمثله أيضاً أيد الله نبيه وخاتم رسله، فصنع الله بيديه باهر المعجزات، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كان يأتيهم بالآيات الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم, ومعجزاته تزيد على ألف معجزة".
وقال ابن القيم بعد أن ذكر معجزات موسى وعيسى عليهما السلام: "وإذا كان هذا شأن معجزات هذين الرسولين، مع بُعد العهد وتشتت شمل أمّتيْهما في الأرض، وانقطاع معجزاتهما، فما الظن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم, ومعجزاتُه وآياتُه تزيد على الألف والعهد بها قريب، وناقلوها أصدقُ الخلق وأبرُّهم، ونقلُها ثابت بالتواتر قرناً بعد قرن؟".
لقد أيد الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالمعجزات الدالة على نبوته، ورأى مشركو مكة الكثير منها ، لكنهم لم يؤمنوا، ولم يذعنوا للحق، بل طلبوا على سبيل العناد والاستكبار المزيد من الآيات } وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً % أو تكون لك جنةٌ من نخيلٍ وعنبٍ فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً % أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً % أو يكون لك بيتٌ من زخرفٍ أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً{ (الإسراء:90-93).
وحتى يقيم الله حجته على قريش؛ فإنه آتى نبيه صلى الله عليه وسلم معجزة من جنس ما طلبوه على سبيل التعجيز، ألا وهي انشقاق القمر، وهو حدث عظيم لا يقع إلا بتقدير العزيز العليم.فقد روى الشيخان وغيرهما من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين: فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اشهدوا)).
قال الخطابي: "انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجاً من جبلة طباع ما في هذا العالم، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة، فلذلك صار البرهان به أظهر".
قال ابن كثير بعد أن ساق روايات عدة لحادثة انشقاق القمر: "فهذه طرق عن هؤلاء الجماعة من الصحابة، وشهرة هذا الأمر تغني عن إسناده، مع وروده في الكتاب العزيز .. والقمر في حال انشقاقه لم يزايل السماء، بل انفرق باثنتين، وسارت إحداهما حتى صارت وراء جبل حراء، والأخرى من الناحية الأخرى، وصار الجبل بينهما، وكلتا الفرقتين في السماء، وأهل مكة ينظرون إلى ذلك، وظن كثير من جهلتهم أن هذا شيء سُحرت به أبصارهم، فسألوا من قدم عليهم من المسافرين، فأخبروهم بنظير ما شاهدوه، فعلموا صحة ذلك وتيقنوه"
وهذا الذي حكاه الله بقوله: } اقتربت الساعة وانشق القمر % وإن يروا آيةً يعرضوا ويقولوا سحرٌ مستمر % وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمرٍ مستقر { (القمر: 1-3)، فلم يكذبوا رؤيتهم للقمر منشقاً، ولم يجدوا أمام هذه الآية الباهرة إلا أن يتهموا نبي الله صلى الله عليه وسلم بالسحر.
واليوم في عصر العلم والمعرفة تتجدد هذه الآية العظيمة، فقد نشرت وكالة الفضاء الأمريكية ناسا في موقعها على شبكة الإنترنت صورة للقمر، وقد اخترطه خط طويل من أقصاه إلى أقصاه، ويعتقد العلماء أنه أثر لانشقاق حصل في القمر قديماً } سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيءٍ شهيدٌ { (فصلت: 53).
ومن خوارق العادات المعجزة التي آتاها الله نبيه صلى الله عليه وسلم ما أعطاه من استجابة الجماد لأمره، والمعهود فيه خلاف ذلك، فقد أتى النبيَ صلى الله عليه وسلم رجلٌ من بني عامر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أريك آية؟)) قال: بلى.
فنظر إلى نخلة، فقال العامري للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع ذلك العِذق! قال: فدعاه، فجاء ينقز حتى قام بين يديه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ارجع)) فرجع إلى مكانه.
فقال العامري: يا آل بني عامر، ما رأيتُ كاليوم رجلاً أسحر.وفي رواية لابن حبان أن العامري قال: "والله لا أكذبك بشيء تقوله أبداً"، ثم قال: "يا آل عامر ابن صعصعة، والله لا أكذبه بشيء يقوله".
إن تحرك الشجرة من مكانها وذهابها ومجيئها لهوَ آية معجزة وبرهان دامغ على صدقه ونبوته صلى الله عليه وسلم.ويروي الإمام مسلم نحو هذه المعجزة من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، يقول: سِرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا وادياً أفْيَح [أي واسعاً] فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته فاتبعته بإداوة من ماء، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ير شيئاً يستتر به، فإذا شجرتان بشاطئ الوادي.
فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: ((انقادي عليَّ بإذن الله)) فانقادت معه كالبعير المخشوش [المربوط بالحبل] الذي يصانع قائده، حتى أتى الشجرة الأخرى، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: ((انقادي علي بإذن الله)) فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمنصف مما بينهما؛ لأم بينهما - يعني جمعهما - فقال: ((التئما عليّ بإذن الله)) فالتأمتا.
ثم يمضي جابر في حديثه ويخبرنا بعود الشجرتين إلى حالهما بعد قضاء النبي صلى الله عليه وسلم حاجته، يقول: فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً، وإذا الشجرتان قد افترقتا، فقامت كل واحدة منهما على ساق".
قال الإمام أحمد: "في الحديث آيات من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم منها: انقلاع الشجرتين واجتماعهما، ثم افتراقهما".
وفي جنبات مكة ثبّت الله قلب حبيبه صلى الله عليه وسلم في مواجهة المحن بآية من هذا الجنس، فقد جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حزين قد خضب وجهه بالدماء، قد ضربه بعض أهل مكة، فقال: مالك؟ فقال: ((فعل بي هؤلاء، وفعلوا)) فقال جبريل: أتحب أن أريك آية؟ قال: ((نعم أرني)).
فنظر إلى شجرة من وراء الوادي، قال: ادع تلك الشجرة، فدعاها، فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه، قال: قل لها: فلترجع، فقال لها، فرجعت، حتى عادت إلى مكانها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حَسْبي)). إنه دليل آخر من براهين نبوته صلى الله عليه وسلم.
ومن معجزات الأنبياء ما أعطاه اللهُ داودَ عليه السلام، ذلك النبي الأواب الذي كان يسبح الله، فتجيبه الجبال الرواسي والطيور مسبحة الله تعالى معه } وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين { (الأنبياء: 79). } ولقد آتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد { (سبأ: 10).
وبمثل هذه المعجزة العظيمة أيد الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ، فسبح للهِ بين يديه الجمادُ ، وشهد له بالنبوة والرسالة.يقول ابن مسعود رضي الله عنه : لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يُؤكل أي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
ويقول أبو ذر رضي الله عنه : إني شاهد عند النبي صلى الله عليه وسلم في حَلْقَة، وفي يده حصى، فسبّحنَ في يده.
وفينا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فسمع تسبيحَهن مَنْ في الحَلْقَة، ثم دفعهن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر ، فسبحن مع أبي بكر ، سمع تسبيحهن من في الحلقة ، ثم دفعهن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسبَّحنَ في يده ، ثم دفعهنّ النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر، فسبحن في يده، وسمع تسبيحهنّ مَنْ في الحلقة، ثم دفعهن النبي صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفان، فسبّحن في يده، ثم دفعهنَّ إلينا، فلم يسبّحن مع أحدٍ منا.
ويقارن ابن كثير بين هذه المعجزة ومعجزة أخيه نبي الله داود عليهما السلام، فيقول: "ولا شك أن صدور التسبيح من الحصى الصغار الصمّ التي لا تجاويف فيها؛ أعجب من صدور ذلك من الجبال؛ لما فيها من التجاويف والكهوف، فإنها وما شاكلَها تردِّدُ صدى الأصوات العالية غالباً ..
ولكن من غير تسبيح؛ فإن ذلك [أي تِردادَها بالتسبيح] من معجزات داود عليه السلام، ومع هذا كان تسبيح الحصى في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان أعجب".
وصدق الشاعر إذ يقول:
لئن سبـَّحتْ صمُّ الجبال مجيبة *** لداود أو لان الحديدُ المصفَّحفإن الصخور الصم لانَتْ بكفه ***
وإن الحـصا في كفه ليُسبِّحُ
وإن من معجزاته صلى الله عليه وسلم العظيمة نطقُ الجمادات بين يديه، فالجمادات لا تعقل ولا تنطق، فإذا أنطقها الله بتصديقه، فهو دليل رضاهُ عن النبي في قوله بنبوة نفسه وتصديقه حين قال بإرسال الله إياه.
وقد بدئ صلى الله عليه وسلم بآية من هذا النوع قبل نبوته ، فكان الحجر يسلم عليه، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن)).
قال النووي: "فيه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم".
وبعد البعثة رأى الصحابة ذلك، يقول علي رضي الله عنه : (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فخرج في بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال: السلام عليك يا رسول الله).
ولم تتوقف هذه الآيات والمعجزات عند السلام عليه صلى الله عليه وسلم والتسبيح بين يديه وأيدي أصحابه، بل أنطقها الله بالشهادة له صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة. يقول ابن عمر رضي الله عنهما: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأقبل أعرابي، فلما دنا منه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أين تريد؟)) قال: إلى أهلي، قال: ((هل لك في خير؟)) قال: وما هو؟ قال: ((تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله)).
قال الأعرابي: ومن يشهد على ما تقول؟ فأشار النبي إلى شجرة، وقال: ((هذه السلَمَة))، فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بشاطئ الوادي، فأقبلَتْ تَخُدُّ الأرض خداً حتى قامت بين يديه, فاستشهدها ثلاثاً، فشهدت ثلاثاً أنه كما قال. ثم رجعت إلى مَنبَتها، ورجع الأعرابي إلى قومه، وهو يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إن اتبعوني أتيتُكَ بهم، وإلا رجعتُ فكنتُ معك.
ومن عظيم خوارق العادات التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم حنين الجذع التي كان يخطب عليها في يوم الجمعة، وهي قصة مشهورة شهدها الكثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يقصها علينا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، فيقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار: يا رسول الله، ألا نجعل لك منبراً؟ قال: ((إن شئتم)).
فجعلوا له منبراً.فلما كان يوم الجمعة خرج إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم، فضمها إليه، تئن أنين الصبي الذي يُسكَّن، قال جابر: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها
قال ابن حجر: "إن حنين الجذع وانشقاق القمر نُقل كلٌ منهما نقلاً مستفيضاً، يفيد القطع عند من يطَّلع على طرق ذلك من أئمة الحديث ".
قال البيهقي: "قصة حنين الجذع من الأمور الظاهرة التي حملها الخلف عن السلف , ورواية الأخبار الخاصة فيها كالتكلف".[20] أي لشهرتها وذيوع أمرها.قال الشافعي: ما أعطى الله نبياً ما أعطى محمداً , فقال له عمرو بن سواد: أعطى عيسى إحياء الموتى! قال: أعطى محمداً حنينَ الجِذعِ حتى سمع صوته , فهذا أكبر من ذلك".
قال ابن كثير: "وإنما قال: فهذا أكبر منه؛ لأن الجذع ليس محلاً للحياة، ومع هذا حصل له شعور ووجد لما تحوّل عنه إلى المنبر، فأَنَّ وحنَّ حنين العِشار [أي الناقة الحامل]، حتى نزل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاحتضنه.. ".