الرحمن علي العرش استوي

بسم الله الرحمن الرحيم
ورد استواء الرحمن على العرش في سبع آيات منها: قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)) طه.
وأخرج ابن مردويه واللالكائي في السنة عن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها في قوله: (ثم استوى على العرش)، قالت الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر.
وأخرج اللالكائي عن ابن عيينة قال سئل ربيعة عن قوله: (استوى على العرش)، كيف استوى؟، قال الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق. وأخرج اللالكائي عن جعفر بن عبد الله قال جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال له يا أبا عبد الله (استوى على العرش) كيف استوى؟ قال فما رأيت مالكا وجد من شيء كموجدته من مقالته، وعلاه الرحضاء - يعني العرق - وأطرق القوم، قال فسرى عن مالك، فقال: الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإني أخاف أن تكون ضالا، وأمر به فأخرج.
الدر المنثور ج3/ص473لذلك كان تفسير استواء الرحمن على العرش بعد هذا القول، محظور الاقتراب منه، والخوض فيه ممنوع. وكان تشدد مالك رحمه الله تعالى في قوله، توفيقًا من الله تعالى لسد هذا الباب، وكان فيه خيرًا للمسلمين.
والوقوف على الإيمان باستواء الرحمن على العرش، دون الوقوف على فهمه لمعرفة حقيقته؛ هو منهج ارتضاه علماء الأمة، ولم يكن هذا المنهج حلاً عند الآخرين، ويريدون جوابًا تطمئن به أنفسهم، وأن كل ما بلغنا به الله تعالى في القرآن داخل في مجال الإدراك البشري، ولا يبقى سرًا غامضًا لا يمكن فهمه، وسبب الخوف من أن يؤدي البحث فيه إلى البحث في كيفية الاستواء، والبحث في الكيفية ممنوع، وسيبقى ممنوعًا الحديث فيه إن أدى إلى التجسيد، أو وصف الله تعالى بالانتقال والزوال.
ودون "فقه استعمال الجذور" الذي لم يعمل به علماء اللغة لدراسة لغتهم لا يمكن فهم الاستواء على حقيقته.
وفقه استعمال الجذور: هو العلم الذي يعرف به سبب تسمية المسميات بأسمائها، ويحدد معاني الأفعال بما يميزها عن المترادفات لها، وعوض عن فقدان هذا العلم، والعمل به في كثير من المتشابهات؛ التفسير بالمترادفات.
وأعرض في هذا الموضوع كمثال "الاستواء" لفهمه بعيدًا عن الكيف والزوال وكل ما لا يجوز وصف الله تعالى به. فالمدخل لفهم ما في القرآن من "الاستواء"، وغيره لا يكون إلا في المدخل اللغوي؛ لأن الإعجاز كان باللغة، فاستعمال القرآن لمادة "سوي" وما ورد في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهو مما يوافق الجانب اللغوي، ويقويه، ولا يخرج عنه ولا يعارضه.
وزاد من صعوبة فهم الاستواء؛ كثرة ما ورد من المرادفات لفهم الاستواء، مما نال بعضه القبول من العلماء، أو مما استنكروه، وشنعوا على أصحابه، ولم ينل الاستواء نفسه حظًا من الدراسة بعيدًا عن المرادفات التي وضعت له لشرحه أو لتقريب فهمه.
المواضع تفيد: التمام والكمال الذي يسبق التوجه للقيام بما بعده، ونذكر من الأمثلة ما يوضح هذا المفهوم؛ من ذلك قوله تعالى: ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (29) الحجر ، (72) ص. سويته أي أكملت خلقه وأتممتها ...
فهو مهيأ وجاهز لنفخ الروح فيه.
وفي قوله تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) القصص. بلغ أشده واستوى أي كمل نضجه، واكتملت رجولته، وأصبح أهلا لتلقي العلم والحكمة. وفي قوله تعالى: (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) النجم.
فاستوى أي ظهر جبريل عليه السلام على خلقه التام الكامل كما خلقه الله تعالى ... وكان بعدها الدنو والتدلي والوحي إلى رسول الله ونبيه عليه الصلاة والسلام. وفي قوله تعالى: (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ (29) الفتح. "فاستوى على سوقه" أي تم، وكمل، وأصبح موضع الإعجاب ... وبعد ذلك يكون اكتمال الثمر ونضجه وحصاده.
وفي قوله تعالى: (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(28) المؤمنون. "فإذا استويت أنت وممن معك" أي اكتمل صعودكم ووجودكم على السفينة، سواء أكنتم على ظهر السفينة أم كنتم في بطنها، فالاستواء كان بتمام الوجود فيها، وأن لا يبقى أحد من أصحابها خارجها على الأرض، وبعد ذلك يكون جري السفينة وانتقالها بقدرة الله فينجو بذلك أصحابها من الطوفان.
وفي قوله تعالى: (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) الزخرف. لتستووا على ظهوره أي اكتمل لكم ملك الدابة، وذلت لكم، لتركبوا على ظهرها، فدون ملك الدابة، ولو استعارة، ودون ذل الدابة، وقبولها وجود راكب على ظهرها، لا يكون هناك استواء على ظهرها فالاستواء على ظهرها هو تمام كل ذلك، لا على أنه المراد وجود الراكب على ظهر الدابة فقط ... ثم بعد ذلك التوجه بها إلى حيث يريد، ولو ظلت الدابة واقفة وهو على ظهرها لما صح تسمية ذلك بالاستواء الذي يوجب على صاحبه شكر الله على هذا التسخير.وقوله تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) فاطر، أي لم يبلغ الأعمى في معرفة الأشياء وصفاتها، وقدرة الانتقال، ما بلغه البصير في تمام هذه النعمة عليه.
وفي قوله تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) فاطر، أي لم يبلغ البحر المالح في صفاته ما بلغه البحر العذب. والمنفعة حاصلة من البحرين.
وفي قوله تعالى: (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135) طه؛ أي الطريق المستقيم الكامل التام.
وفي قوله تعالى: (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ (22) القصص؛ أحسن الطرق الموصلة لمدين وأفضلها.وفي قوله تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) القصص. أي اكتمل سن النضج الذي يصلح فيه أن يكون نبيًا مرسلاً، وبلغ أربعين سنة؛ كم قال تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً (15) الأحقاف.
وفي قوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا (42) النساء؛ أي يودون لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى، فلا يكون لهم ظهور على وجهها، لا أحياء ولا أمواتًا. والوجه الثاني: يودون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء، ليس لهم فضل وزيادة على الأرض.
وكل ما ورد في اللغة غير ما ورد في القرآن لا يخرج عن معنى الجذر ... والسواء : العدل والمثيل. أي أن لكل واحد منهم ما للآخر من صفات. وخطُّ الاستواءِ عند الجغرافيين دائرةٌ مرسومةٌ حول الأرض على بُعدٍ واحدٍ من القطبتين تُقسَم بها الأرض إلى نصفين شماليٍّ وجنوبيٍّ سُمّي بهِ لتساوي الليل والنهار عندهُ طول السنة (لسان العرب – مادة سوي).
وليلة السواء: ليلة أربع عشر لاكتمال القمر فيها. واعجب من تفسير الاستواء بالرسو في قوله تعالى: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) هود... فلم يرد استعمال العرب للاستواء بمعنى الرسو، ولا يوافق هذا التفسير استعمال هذا الجذر.
والضمير في "استوت على الجودي" إما أن يعود على السفينة، وإما على الأرض، فإن عاد الضمير على السفينة بمعنى ذلك أنها رست على الجودي فليس من معاني الاستواء الرسو، وثانيًا كيف ترسو سفينة على جبل دون أن تتحطم ويهلك من عليها؟!، والاستواء يفيد التمام والكمال ... فهذا يخالف هذا ... وأمر ثالث؛ أين هذا الجبل المسمى بالجودي؟ وإن أشير إلى أنه في مكان ما ... فأين الدليل اليقيني الذي يثبت أن هذا هو المقصود بالآية؟ ولماذا يجعل "الجودي" اسم خاص بجبل معين والآية لم تنطق بذلك... وتفسير الجودي بالجبل هو من الإسرائيليات التي انتقلت لهذه الأمة، ولا يسمى عند العرب الجبل بالجودي، ولم يرد حديث يبين هذا الأمر الغيبي.
وإن عاد الضمير على الأرض فمعنى ذلك أن الأرض تمت واكتملت بعد الطوفان فأصبحت أكثر خصبًا وعطاء، فتعود ياء النسبة في الجودي على الجود نفسه، وهذا يوافق ما بينه نوح عليه السلام من فوائد الاستغفار: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10) يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا(12) نوح.
وتحقق ذلك لمن آمن منهم بعد الطوفان، فانظر إلى قول هود عليه السلام لعاد أول قوم بعد نوح عليه السلام ،: (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) الشعراء... وتسرب بعض ماء الطوفان في الأرض (وغيض الماء) بكميات كبيرة سيفجر العيون، ويجري الأنهار، وتتكون عليه الجنات التي حرم منها قوم نوح عليه السلام قبل الطوفان.
ولندخل فيما تعلق بالرحمن من هذه المادة اللغوية: قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) البقرة .... وفي قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فصلت. ي
فهم من قوله تعالى: "ثم استوى إلى السماء" ما فهم من الآيات السابقة في استعمال مادة سوي؛ بأنه تعالى أراد إتمام خلقها على أكمل وجوهها، وإتمام عددها سبعًا، لذلك قال تعالى فسواهن سبع سموات، لتقوم بما أمرت به، فقال تعالى بعدها: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(12) فصلت.
ولم يذكر تعالى أنه سوى السموات والأرض بلفظ يجمعهما معًا، وذكر تسوية السماء سبع سموات، ولم يذكر التسوية للأرض؛ لأنه تعالى أتم خلق الأرض في الأيام الأربعة الأوَل من أيام خلق السموات والأرض الستة.... لكن قال بعد تمام خلق الأرض (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ)، أي بعد تمام خلق الأرض استوى إلى السماء ليمها أيضًا سبع سموات.
أما ورود استواء الله على العرش الوارد في سبع آيات منها قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) طه. وفي قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا(59) الفرقان.
كان هذا الاستواء بعد الحديث عن إتمام خلق السموات والأرض.وربط الانتهاء من خلق السموات والأرض باستوائه على العرش؛ لبيان أن خلق السموات والأرض لم يكن لذات الله، بل كان خلقهما ليكونا مكانًا لمن يعبد الله بعد ذلك من الإنس والجن.
ولبيان أن عرش الرحمن هو أسبق منهما، ولا موازنة بينهما وبين عرش الرحمن.
وان خلقهما كان بيد الله، ولم يكن هذا الخلق من تسلسل الأفعال التي جرت على سنن الله في الكون عامة.
لذلك جاء الاستواء لفعل الرحمن بعد ذكر خلق السموات والأرض والاستواء إلى السماء، لإتمامها سبع سموات ... والله سبحانه وتعالى هو أعلم بما أنزل في كتابه.
واستواء الرحمن على العرش يفهم من استعمال القرآن لمادة "سوي" أنه لا يدل على هيئة معينة للاستواء، بل يدل على أن الرحمن أتم خلق السموات والأرض، وانتهى من ذلك ... وبعد ذلك تحتاج السموات والأرض إلى تدبير أمرهما.

0 Comments:

Post a Comment